top of page
  • سهيل الدراج | صحيفة الاقتصادية - العدد 5256

إعادة قراءة أحداث الكساد الكبير عام 1929


الكساد الكبير أو ما يعرف بـ The Great Depression هو أسوأ كارثة اقتصادية عالمية عرفها التاريخ، وقد حدث خلال فترة الثلاثينيات من القرن الماضي، وشكّل أصعب وأطول فترة من البطالة والفقر تمر بها الدول الصناعية على رأسها الولايات المتحدة .. وعلى الرغم من أن الكساد الكبير بدأ قبل ستة أشهر، إلا أن انهيار أسواق المال في وول ستريت في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1929 شكل البداية الفعلية لفترة الكساد التي امتدت لعقد من الزمن .. 40 في المائة من قيمة الأسهم المسجلة في البورصات الأمريكية تبخرت في الهواء وتبخر معها أحلام الملايين الذين دخلوا أسواق المال طامعين في بناء الثروة . البنوك والمصانع والمتاجر أغلقت أبوابها وسرحت العاملين بها لتخلف الملايين من الشعب الأمريكي تحت وطأة البطالة والتشرد، والاعتماد على المنظمات الخيرية لتزودهم بقوتهم اليومي.


وتعود فصول قصة الكساد الكبير إلى منتصف العشرينيات من القرن الماضي وتحديدا في عام 1925 عندما بدأت أسواق الأسهم في الولايات المتحدة بالارتفاع الكبير حتى بلغت قمتها في عام 1929، وشجعت الارتفاعات الكبيرة والمتلاحقة عامة الشعب في الدخول إلى البورصات وشراء الأسهم طمعاً في تحقيق أرباح طائلة .. ولكن يوم الثلاثاء 24 تشرين الأول (أكتوبر) والذي سمي فيما بعد بالثلاثاء الأسود كان بداية الانخفاض الحاد في أسواق الأسهم الأمريكية، بعدها استقرت الأسواق لعدة أيام، وفي يوم الخميس الأسود الموافق التاسع والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) عادت موجة قوية من البيع المتسارع وأقبل الجميع على بيع كل شيء، حتى بلغ عدد الأسهم المعروضة للبيع رقما قياسياً تجاوز 16.410.030 سهما دون أن تجد من يرغب في شرائها.


أفلس الأفراد جراء خسارتهم في أسواق الأسهم، وتبعهم الكثير من البنوك والمؤسسات المالية إلى إعلان إفلاسهم، وفقد الأفراد مدخراتهم وأصبحوا غير قادرين على شراء احتياجاتهم الأساسية، فضلاً عن الكمالية، وكنتيجة لذلك تكدست السلع والبضائع في المتاجر والمصانع ولم تجد من يشتريها .. توقفت المصانع عن الإنتاج وأغلقت المتاجر أبوابها وسرّحت العاملين بها، أما المزارع فقد انخفضت إنتاجيتها إلى النصف ..


فقد الكثير من الناس منازلهم بسبب عدم قدرتهم على دفع الأقساط البنكية .. وبحلول عام 1932 بلغت نسبة البطالة بين 25 في المائة إلى 30 في المائة من حجم القوى العاملة أو بلغة أخرى 30 مليون عاطل عن العمل، وأصبح الكثير من الأفراد والأسر بلا مأوى، وأخذوا يجوبون المدن والولايات الأمريكية باحثين عن العمل وعن الطعام والكساء والمأوى .. وأصبحت طوابير الطعام مشهداً مألوفاً في المدن الأمريكية ..


حتى بعد أن انهارت الأسواق المالية، فإن السياسيين وقادة الصناعة والاقتصاديين كانوا يصدرون تقارير متفائلة عن وضع الاقتصاد القومي الأمريكي، ولكن الكارثة كانت أكبر من كل شيء، فقد تبخرت الثقة وتبخر معها مدخرات الأفراد. وفي عام 1933 بلغت خسائر بورصة نيويورك أكثر من 80 في المائة من أعلى قيمة بلغتها في عام 1929.


وعلى الرغم من أن الكساد الكبير بدأ في الولايات المتحدة إلا أنه سرعان ما انتشر في جميع أنحاء العالم، وخصوصاً في أوروبا نظراً للترابط الاقتصادي الكبير بين الولايات المتحدة والاقتصاديات الأوروبية الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الأولى .. ولما كانت الكثير من الدول الأوروبية لا تزال تعاني تبعات الحرب ووطأة الديون فقد كان الأثر مضاعفاً عند بعض الدول الأوروبية كألمانيا وبريطانيا العظمى، حيث بلغت نسبة البطالة في ألمانيا أكثر من 25 في المائة، وفى بريطانيا استمر القطاع الصناعي وقطاع الصادرات في الكساد حتى الحرب العالمية الثانية. وخلال هذه الفترة انهارت التجارة العالمية إلى النصف تقريباً، بسبب سعي الكثير من الدول إلى حماية اقتصادها ومصانعها من تدفق البضائع العالمية الأقل ثمناً، فسعت إلى فرض التعريفات الجمركية، وتحديد حصص للواردات الأجنبية.


وعلى الصعيد السياسي، فقد ركـــزت حملة الانتخــابات الرئاسية لسنة 1932 على الأسباب والحلول الممكنة للخروج من الكساد الكبير. هربرت هوفر، الرئيس الأمريكي الجمهوري في ذلك الوقت، كان سيئ الحظ، حيث حدثت كارثة الكساد الكبير بعد دخوله البيت الأبيض بنحو ثمانية أشهر فقط، وظلت إدارته تكافح دون كلل للوصول إلى الحلول الممكنة التي تضمن عودة عجلة الصناعة إلى الحركة من جديد .. فرانكلين روزفلت، المرشح الديموقراطي للبيت الأبيض وحاكم نيويورك أثناء الأزمة هاجم الجمهوريين بشدة وأنحى باللوم على اقتصاد الولايات المتحدة الذي يتسم بالكثير من العيوب، وذكر أن هذه الكارثة حدثت بسبب سياسات الجمهوريين خلال العشرينيات .. بينما رد الرئيس هوفر بأن الاقتصاد الأمريكي سليم من الناحية الأساسية، ولكنه اهتز بفعل الركود العالمي لأسباب تتعلق بتوقف المصانع عن الإنتاج الحربي وتحول الكثير منها إلى الإنتاج الاستهلاكي .. وبذلك يكون هوفر قد ركز على العودة الطبيعية والتدريجية إلى تعافي الاقتصاد دون تدخل مباشر .. في حين ركز روزفلت على استخدام السلطات الفيدرالية الحكومية لإنقاذ الاقتصاد. الانتخابات الرئاسية أسفرت عن فوز ساحق لروزفلت الديموقراطي على هربرت هوفر الجمهوري، وبذلك استعدت الولايات المتحدة للدخول في مرحلة جديدة من التغيير السياسي والاقتصادي.


وفي عام 1933 أعلن الرئيس الجديد ، فرانكلين روزفلت، عن برنامجه الاقتصادي المعروف باسم The NEW DEAL، واستطاع أن يحشد أكبر دعم له، وقال في خطابه "إن الشيء الوحيد الذي يجب علينا ألا نخاف منه هو الخوف نفسه " .. وفي الواقع، فإن خطة النيو ديل كانت عبارة عن مجرد نوع من الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي المعروف لدى الأوروبيين منذ عدة عقود، وكانت أيضا بداية عصر جديد في التخلي عن مبادئ آدم سميث التي كانت تنادي بعدم تدخل الدولة في الاقتصاد.


ما أثار دهشة المحللين والمراقبين هو السرعة التي نفذت فيها خطة النيو ديل، والتي عادة تستغرق أجيالا لتطبيقها.. عندما أدى روزفلت القسم لاستلام السلطة كان النظام المصرفي والائتماني في حالة شلل تام، وكانت البنوك مغلقة، فأمر روزفلت بفتح المصارف التي لم تتعرض للإفلاس بشكل تدريجي، واعتمدت الحكومة سياسة معتدلة تجاه تضخم العملة، والبدء بحركة تصاعدية في أسعار السلع الأساسية، وتوفير الإغاثة لبعض المدينين، في حين وفرت الحكومة تسهيلات ائتمانية سخية إلى الصناع والمزارعين، وسنت أنظمة مشددة على بيع الأوراق المالية في البورصات.


أول خطوات الإصلاح الاقتصادي توجهت نحو العاطلين عن العمل من خلال تشريع سنّه الكونجرس عرف باسمCivilian Conservation Corps (CCC) ، والذي تضمن إيصال المساعدة للشباب العاطلين عن العمل الذين تقع أعمارهم بين 18 و 25 سنة، من خلال انخراطهم في مخيمات تشبه المخيمات العسكرية إلى حد بعيد مقابل 30 دولاراً للشهر الواحد للمشاركة في الأنشطة والمشاريع الاجتماعية، كغرس الأشجار، وإزالة التلوث، وحفر الآبار وإصلاح الطرق والمشاركة في استخراج الفحم وغير ذلك من الأنشطة الاجتماعية .. نحو مليوني شاب انضموا لهذا البرنامج الذي سن في تشرين الثاني (نوفمبر) 1933 وتم إيقافه في ربيع 1934.


اختلف الاقتصاديون كثيرا في أسباب ومسببات الكساد الكبير، لكن جوهر مشكلة الكساد يعود لفترة العشرينيات من القرن الماضي، وما صاحبها من تفاوت هائل بين القدرة الإنتاجية للاقتصاد المحلي وقدرة الناس على الاستهلاك. فالتطورات في تقنيات الإنتاج أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى ارتفعت بشكل كبير في الولايات المتحدة، ما زاد من حجم إنتاج المصانع بشكل أكبر بكثير من احتياجات الناس في الولايات المتحدة ما تسبب في تكدس الإنتاج السلعي .. إضافة إلى الخلل الكبير في توزيع الثروة بين طبقات المجتمع، فإن زيادة ثروات الطبقة الثرية وادخارات الطبقة المتوسطة بشكل كبير أدى إلى اتجاه هذه الثروات والمدخرات إلى المضاربات المحمومة في أسواق الأسهم أو العقارات في ظل أوعية استثمارية محدودة .. وهناك سبب ثالث وهو عدم تنويع الأنشطة الاقتصادية داخل المجتمع ، فقد كانت الصناعتان الأساسيتان في الولايات المتحدة في ذلك الوقت هما صناعة السيارات وصناعة الإذاعة، ولم يكن هناك تركيز على الصناعات الزراعية وغيرها من الصناعات الأخرى.


وقد أدى الكساد الكبير إلى إعادة النظر في سياسات آدم سميث الداعية إلى عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي (مبدأ اليد الخفية) وبداية عهد تطبيق نظرية كينز التي تسمح للحكومة بالتدخل في النشاط الاقتصادي، ولكن بشكل محدود من خلال السياسات المالية والنقدية .. ومما هو جدير بالذكر، فإن الولايات المتحدة لم تستطع التغلب على البطالة وعلى تبعات الكساد بشكل كلي إلا بعد أن دخلت الحرب العالمية الثانية، بعد حادثة بيرل هاربر، في السابع من كانون الأول (ديسمبر) عام 1941 .. وهكذا استطاعت الولايات المتحدة التغلب على أكبر كارثة اقتصادية عالمية، والنصر في أكبر حرب عالمية .. لتصبح أكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم حتى الآن.


نسأل الله ان يكفينا واياكم شر الكوارث الاقتصادية والحروب ،،


صحيفة الاقتصادية السعودية | العدد 5256


bottom of page